[b]الحوار والجدل
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه … وبعد :
فعنوان حديثنا " دعوة للحوار " وبين يدي هذه الموضوع لابد أن نذكر أنفسنا بحديثٍ نسمعه في منتدياتنا ، و نقرؤه فيما يكتب ويسطّر ، و نسمعه في المنابر العامة ، وأصبح هذا الحديث يأخذ انتشاراً بين طبقات أوسع في المجتمع من ذي قبل ، ذلكم هو الحديث عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، لقد أصبحت الدعوة إلى الله عز وجل تساؤلاً يطرحه الكثير من الشباب ، لكنه يطرحه ضمن دائرةٍ محدودة من مجتمعات المسلمين ، فهو يعيش في إطار محدود ولا يتعامل إلا مع شريحة وقطاع معيَّنيْن ، فالطالب لم يعش إلا في جو الطلاب وجو الشباب ، في ظل نموذج محدود ومحصور بزمان معين .و لا يدري عما يدورخارج هذة الدائرة فيها.
إنه لا يليق أن نظل ندور في هذه الحلقة ، بل نتجاوز إلى مرحلة أخرى وهي: أن نتساءل عن الأساليب الجديدة ، والوسائل والمعوقات، وننتقل نقلة أخرى لأننا إذا بقينا نحدث الناس ونخاطب الناس داخل هذه الدائرة المحدودة ، فلا نتحدث إلا عن أهمية الدعوة والحاجة إليها وفضلها عند الله عز وجل- مع أهمية هذا الحديث- إذا كنا ندور فقط في ظل هذه الدائرة فسنبقى ولن نتطور ولن نتقدم .إننا نحتاج كثيراً للحديث عن فضل الدعوة وأهميتها، ويجب أن تكون مستقرة وبديهية .
في هذا الحديث إنما أخاطب فئة خاصة من الناس، هم أولئك الذين يشعرون أنَّ عليهم مسؤولية في الدعوة وأن عليهم واجباً ، أمّا أولئك الذين لا يزالون إلى الآن يتساءلون هل لهم دور في الدعوة أم لا ؟
فأولئك من وجهة نظري يجب أن نتجاوزهم، وأنَّ الوقت لا يتسع لأن نضيعه في الخطاب مع غير الجادين ، إن الواقع يفرض نفسه فأي مسلم عنده غَيرة وعنده حميِّة لدين الله عز وجل وغضب إذا انتهكت محارم الله يرى أينما ما ذهب يمنة ويسرة في واقع المسلمين ما يحرق فؤاده وما يدمي قلبه ، والذي لم يتألم قلبه لواقع المسلمين اليوم ولم يتحرك قلبه فليبكِ على قلبه، وليراجع منزلة الدين في نفسه أصلاً، وأين منزلة الدين لديه إذا كان ما يراه من واقع المسلمين اليوم من فساد وتخلف ومن مشكلات - يتصدع رأسك و أنت تحاول أن تحصي رؤوسهاوعناوينها فقط فكيف بالتفاصيل - الذي لا تحرك هذه الأوضاع قلبه يجب أن يعيد منزلة الدين في قلبه، وفي وجود الغيرة عنده على حرمات الله عز وجل ، ولهذا قال النبي r : " ما من نبي أرسله الله إلاَّ وكان له أصحاب يهتدون بسنته ويهتدون بأمره، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . إن الذي لم يجاهد في سبيل الله في إنكار المنكرات، وتغيير هذا الواقع بالأسلوب الشرعي المناسب وافتقد حتى القضية القلبية فهو يحتاج أن يعيد النظر في إيمانه " . ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، ماذا ؟ لأن الإيمان لابد أن يُوجِد عند الإنسان الغيرة والحمية للدين.
إن ما سبق كله يدعونا إلى أن نتساءل دائماً ونبحث عن أساليب للدعوة إلى الله عز وجل، وقد لا تكون بالضرورة أساليب جديدة نبتكرها، لكن قد نكون غافلين عنها، ومن ذلك:
ما نلقي الحديث حوله وهو قضية الحوار .
هذا الحديث ليس حديثاً عن أدب الحوار، ولا كيف نتحاور مع الناس، إنما هو حديث عن حاجتنا لاستخدام الحوار في دعوتنا إلى الله عز وجل والجدل و إقناع الناس، ونشعر جميعاً حينما نتأمل في واقعنا أنَّ هذه اللغة لغة مفقودة كثيراً في دعوتنا، وأنّا ربما لا نصنف هذا اللون وهذا الأسلوب ضمن أساليب الدعوة إلى الله عز وجل .
لماذا نحن بحاجة إلى الحوار والجدال ؟
الأمر الأول: الأمر به في القرآن :
نحن بحاجة إليه لأنه أسلوب دعا إليه القرآن فالله تبارك وتعالى يقول :
(( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فيأمر تبارك وتعالى نبيه والسائرين على نهجه أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن حتى لا يكون الجدال مراءً ، أو جدلاً عقيماً، فهو أمرٌ يُخاطَب به النبي r ولا شك أنَّ المسلمين والدعاة لله عز وجل والعاملين لدين الله تبارك وتعالى يتأسون به عليه الصلاة والسلام .
ويقول تبارك وتعالى : ) ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ( . هذه الآية ينهى الله – تبارك وتعالى – فيها أن يجادل أهل الكتاب جدلاً مذموماً وذلك لأن أهل الكتاب بطبيعتهم أهل جدل وأهل شقاق وأهل مراء ونعرف هذا في كتاب الله تبارك وتعالى ،فقد قصَّ الله عز وجل علينا قصص بني إسرائيل وقص علينا أخبارهم وأنباءهم ، اقرؤوا سورة البقرة في أولها وكيف كان أولئك يتخاطبون مع نبي من أنبياء الله تبارك وتعالى ، كيف كانوا يتخاطبون مع موسى حين قال :
) إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قالوا أتتخذنا هزوا - أهذه لغة يخاطب فيها نبي من أنبياء الله ؟! – قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، قالوا ادع لنا ربك ( لاحظ الخطاب ) ادع لنا ربك ( كأن الله في منطق هؤلاء رب لموسى وحده …
) ادع لنا ربك يبين لنا ما هي (…
) ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها (…
) ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا (…
وحين قال لهم موسى : ) ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ( ، بدأ الحوار معهم بمقدمة وكأنه كان يتوقع منهم هذا اللجَجْ والخصومة فذكرهم بنعمة الله عليهم ) اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ( ... ) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين و إنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ( ثم قالوا بعد ذلك : ) قالوا يا موسى : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون – حتى وصل موسى إلى اليأس – قال ربَّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (. وحين كتب الله عليهم التيه أربعين سنة تاهوا في الصحراء حتى ذهب هذا الجيل جيل الهزيمة جيل الجدل والخصومة، وجاء الجيل الجديد ثم أرسل الله إليهم يوشع بن نون وبدأهم من البداية وخطبهم وقال : (( لا يتبعني أحدٌ بنى داراً ، ولم يرفع سقوفها ، ولا يتبعني أحدٌ قد تزوج امرأةً ولمَّا يدخل بها – يعني أي إنسان متعلق بالدنيا فلا يتبعني - ثم قال للشمس : "أنت مأمورة وأنا مأمور" فحبس الله الشمس حتى فتح الله عز وجل له الأرض المقدسة )) هكذا كان بنو إسرائيل يتعاملون مع الأنبياء ولهذا في هذه الآية يأمرنا سبحانه وتعالى أن نجادل بني إسرائيل . لكن بالتي هي أحسن .
الأمر الثاني :الحوار من منهج الأنبياء :
حينما نقرأ القرآن نجد أنه كثيراً ما يورد لنا قصص الأنبياء والتي ما وجدت عبثاً وما ملئ بها القرآن حشواً ، بل خاطبنا الله عز وجل بها لنعتبر ونتعظ ونأخذ من سير الأنبياء عليهم السلام منهجاً، فهم يمثلون قمة النجاح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وقمة النجاح في استخدام الأسلوب المناسب مع أقوامهم ، حينما تقرأ قصص القرآن نرى أنها لا تكاد تفتقد الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم ، أي قصة من قصص الأنبياء، فكانوا يخاطبون أقوامهم ، ويجادلونهم أفراداً وجماعات ، ومن ذلك على سبيل المثال :
نوح وقومه ؛ هاهم قوم نوح يعلنون الشكوى أمام نوح أنهم لم يعودوا يصبروا على جداله ) قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( فقد شعروا أنهم قد أُلجموا بالجدل والخصومة فهربوا إلى بابٍ آخر- وهذا شأن المكابرين المعاندين - فانصرفوا واستعجلوا العذاب
) فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( فيجيبهم نبي الله بالمنطق الذي كان يليق بأنبياء الله بأن قضية العذاب قضية لا تهمه وأنها أمر بيد الله عز وجل ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ( فهذه ليست قضيتي ، ولست مسؤولا عن عذابكم إنما هذا أمرٌ بيد الله إذا شاء الله أن يعذبهم فسيعذبهم ، أمّا الحوار والجدل معهم فهي قضية ليست مقصودة لذاتها إنما كان ذلك لأجل النصيحة لهم ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ( .
يوسف في السجن :نموذج آخر يحدثنا عنه القرآن ، ذلكم هو الحوار والجدل الذي دار بين يوسف و أصحابه في السجن حينما جاءوا إليه يستفتونه في رؤياهم؛ فبدأ معهم الحوار بقضية التوحيد وقضية الألوهية وكأنه شعر أن هذه القضية أهم من قضية الرؤيا وتعبير الرؤيا . فحين جاءوا إليه يستفتونه ) نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين . قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي ( .أولاً : وعدهم أنه سيجيب على هذا السؤال ، ثم نسب العلم إلى الله ) إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( ؟ انظر لأسلوب الحوار الذي كان يطرحه معهم فيطرح هذا التساؤل تنزلاً معهم ) أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماءاً سميتموها أنتم وآبائكم ( الآلهة من الذي سماها ؟ أنتم الذين سميتم هذه الآلهة فكيف تعبدونها، ثم بعد ذلك عبّر لهم الرؤيا .
إبراهيم ووالده : ويحكي لنا القرآن أيضاً حواراً آخر بين إبراهيم وبين أبيه .
) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً . يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًّا . قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنَّك واهجرني مليّا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًّا .( .
واستعراض سائر النماذج - نماذج الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم - استعراض يطول فحين نريد أن نستعرض كل المواقف التي جادل الأنبياء فيها أقوامهم، فهذا يعني أن نذكر كل قصص الأنبياء التي ذكر الله في القرآن، لأن كل حياة الأنبياء كانت جدلاً وحواراً بينهم وبين أقوامهم .
إذن فهؤلاء هم الأنبياء -وهم قدوة الدعاة إلى الله - هاهم لا يفتقدون هذا المنهج، وهم كما قال نوح :
) قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم ... ( . ثم قال : ) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( فاستعمل معهم كل الأساليب : دعاهم أفرادا ، دعاهم جماعات ، دعاهم في الليل , دعاهم في النهار ، ولك أن تتصور هذه الأساليب والوسائل التي استخدمها نوح مع قومه وقد بقي معهم ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى تضجروا منه فقالوا ) قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (
أما خاتم الأنبياء r - ولاتخفاكم سيرته- كم هي مواقف الحوار والجدل التي كان النبي r فيها يجادل الناس، وكم هم الذين أسلموا من خلال لقاء وحوار بينهم وبينه .
هاهو عمرو بن عنبسة جاء إلى النبي r فقال : من أنت . قال : أرسلني الله فجلس النبي r وإياه حتى أسلم رضي الله عنه .
ولئن جاء عمر رضي الله عنه جاء بصورة الرجل المقبل ليسأل ، فقد جاء ضماد بصورة أخرى جاء إلى مكة وكان كاهناً يرقى الناس أيام الجاهلية وسمع قريشاً يتهمون النبي بالجنون والسحر، فجاء إلى النبي وقال له أريد أن أرقيك - وهو جاد- ، قال إذا كنت تشكو من سحر أو من جن وفيك داء أرقيك فإن الناس يُشفون على يدي، فخاطبه النبي r وسمع حديثاً آخر وخطاباً آخر ثم انصرف وقد أسلم .
هل تظن أن أولئك الذين أسلموا كلهم سمعوا دعوة النبي r من خلال خطاب عام كان يخاطب به الملأ ، نعم قد كان النبي r يخاطب الناس في المجامع العامة؛ فقد صعد إلى الصفا ودعا الناس ثم قال : " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان يخاطب الناس في المواسم، كان كثيراً ما يجادل بالتي هي أحسن ويجادل استجابةً لأمر الله .
وأصحاب النبي r الذين ساروا على نهجه كانوا يفتحون الجدل والحوار، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما حصل بعد صلح الحديبية، فقد ذكر أهل السير أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين صلح الحديبية وفتح مكة،أكثر من الذين دخلوا في الإسلام منذ بعث النبي والسر؛ ذلك أنه لما تمت الهدنة بين النبي وقريش كان هناك مجالٌ للقاء والحوار؛ فأسهم ذلك في نشر هذه الدعوة وخطاب فئات ربما كانت لم تسمع بها .
الأمر الثالث : أنه ميدان يسع الجميع:
كثيراً ما نسمع الشكوى والتساؤل؛ فكثير من الناس يتساءل ويقول إني أريد أن أشارك في الدعوة ، وأريد أن أساهم ، لكنني لا أملك القدرة ولا الإمكانات ، والكثير من الناس يطرح هذا السؤال جادًّا وهو يشعر أن الدعوة إلى الله تتطلب قدرات لا يملكها .
فتتطلب أولاً : رصيداً من العلم الشرعي - قد لا يملكه – باعتبار تخصصه أو باعتبار ضعف حصيلته ، أوقلة اهتمامه ، أو دخوله في الاستقامة حديثاً ،أو لأي اعتبار آخر.
وقد يشعر أن الدعوة تحتاج منه إلى أن يكون كاتباً أو خطيباً أو رجلاً مؤثراً … إلخ ، فهو قد يشعر أن هذه الدعوة تتطلب قدرات وإمكانات لا يطيقها هو ولا يملكها ، وحينئذٍ يتساءل بجد : ما الدور الذي أقوم به ؟
إن كل إنسان في المجتمع وأيًّا كانت قدراته ، أيًّا كانت مكانته يستطيع أن يفتح حواراً مع الناس الذين حوله ومع أقرانه ؛ فالطالب مثلاً يستطيع أن يناقش أحد زملائه ، ويحادثه حديثاً وديًّا ، ليس بالضرورة أن تكون نصيحة موجهة ، أو خطاباً رسميًّا كما يقال له يا أخي أنا أود أن أسألك سؤالاً : هل أنت راضٍ بوضعك الآن ؟ هل تشعر أن الحال التي أنت عليها ترضي الله ورسوله ؟ هل لو أتاك الموت على هذه الحال أنت راضٍ ؟ ألا ترى أنك خلقت لحكمة وغاية ألا يستطيع أن يقول هذا الكلام ؟!! وهل يرى أحد أن هذا الكلام يحتاج إلى علم جم وغزير ؟، أبداً هذا الكلام يستطيع أن يقوله كل مسلم.
حينما تجد زميلاً لك قد بدأ يصاحب الأشرار وتأخذ بيده وتقول يا أخي أنت تعرف أن الأشرار قد يؤثرون عليك وقد يوقعونك في الفساد وقد تبدأ أنت معهم من نقطة صغيرة وتنتهي إلى نهاية مزعجة وأنت تعرف أن النبي r حذرنا من صحبة الأشرار وهو r ناصحٌ لنا وقد ضرب لنا مثلاً بالجليس الصالح والجليس السوء .
أنا لا أتصور أبداً أن أحداً منكم لم يمر عليه هذا الموقف ، لا أحد منكم لم ير زميلاً له قد بدأ يصاحب الأشرار ، لكن من منا حينما رأى زميله يصاحب الأشرار وقد بدأ معهم هذه الخطوات طرح معه هذا الحوار وهذا الحديث ، صحيح أنه كلما كان الإنسان أكثر قدرات كان أقدرعلى الإقناع ، لكن ضع في ذهنك أن الشخص المقابل لك هو في مستواك ومثلك ، فحين تكون أنت طالباً في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعة أو موظفاً ، فالذي تتعامل معه هو مثلك تماماً مثل ثقافتك ، مثل قدراتك ، بل أنت قطعاً ستكون أكثر قدرات منه باعتبار أنك إنسان متدين على الأقل أنت تقرأ ، وأنت تسمع ، نحن نريدك أن تعيش مع من هو مثلك، وهكذا نشعر أنه لا توجد فئة من فئات المجتمع إلا تستطيع أن تخاطب من في مستواها.
إن أي إنسان في المجتمع يستطيع أن يجيد مثل هذه اللغة مع من حوله من الناس ، إذن فاستخدام هذا الأسلوب وهذه اللغة سيقضي على هذا التساؤل ، وسنشعر حينما نفكر هذا التفكير أن الميدان قد أصبح مفتوحاً للجميع ، وأصبحت قضية الدعوة تستوعب كل الناس، وتستوعب كل الطاقات في المجتمع ، نحن لا نجادل أبداً أن التصدر لدعوة للناس يجب أن تكون لطبقة تأهلت لذلك ، ونحن نشعر أنه لا يجوز بحال أن يدعو الإنسان الناس إلى شيءٍ لا يعلمه، ولا يجوز أن يتصدر المقل لما لا يحسنه هذه قضايا بديهية ولسنا بحاجةٍ أن نؤكد عليها ، لكن هناك قضايا لا يعذر بها أحد ، فالنبي r حينما خاطب الأمة قال : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده … )) فكل مسلم يرى المنكرات التى يعلم الجميع أنها منكر.
الأمر الرابع : سعة الانتشار :
أن هناك وسائل دعوية قد تمتلك رصيداً من الجاذبية ، وقد تملك عاملاً من عوامل الجذب والإثارة ، لكنها تخاطب فئة محدودة من الناس وشريحة قليلة مهما بلغت من الانتشار فالكتاب إذا طبع منه عشرة آلاف نسخة اعتبر واسع الانتشار ، والكتاب المثير لا يزال في عالمنا الإسلامي- الذي لا يعرف القراءة -لا تعد الأرقام فيه بالملايين بل بالآلاف ، وافترض أن هذا الكتاب طبع منه مليونا نسخة أو ثلاثه ملايين نسخة ، ماذا تصنع مع العالم الإسلامي الواسع ؟.
والشريط الذي يعد وسيلة واسعة الانتشار ، ما أعلى رقم يباع منه ؟ فئة محدودة من الأشرطة التي تنتشر انتشاراً واسعاً ، وستبقى محصورة في دائرة معينة مهما اتسعت الانتشار لكن حينما تتوسع قضية الدعوة ، و نفتح مجالاً للحوار و يصبح كل واحد يحمل قضية الدعوة ؛ فهذا يعني أننا سنخاطب المجتمع بأسره ، وسنخاطب كافة الطبقات ، ولا شك أن دين الله عز وجل يجب أن يبلَّغ للناس وأن يخبر به الناس كافةً .
دعنا نسأل: هل هناك شاب في مجتمعنا لم يتقابل مع شاب متدين أبداً ؟ اذهب إلى الشارع في أي مكان وأمسك بيد أي شاب واسأله عن ذلك ، فستراه قد قابل شاباً متديناً في المدرسة، وربما كان في فصله، أو جاره في المقعد، وقابل شاباً في الحي ، ربما كان قريباً له أو أخاً .
وانظر إلى أي فتاة في المجتمع ، ألم تقابل يوماً من الأيام فتاةً متدينة ؟ معلمة،أو زميلة، أو جارة، وهكذا سائر فئات المجتمع.
حينما تكون الدعوة قضية نحملها في كل مناسبة، وقضية حوار نفتحه في كل وقت في حالات فردية أو جماعية ، حينما نقابل أي شخص نفتح معه هذا الحوار ، فهذا يعني أنَّ هذه الرسالة أوستصل للناس كافة ، وستصل إلى طبقات واسعة من المجتمع .
كثير من الطلاب الذين قد حاورتهم شخصيًّا ، يقول لي : إني أول مرة أسمع هذا الكلام، وأول مرة أجد من يواجهني بهذا الخطاب ، وهذا منطق عجيب ، أنت تعيش في بيئةٍ مليئةٍ بالمتدينين كم أستاذا متديناً درسك ؟ كم طالباً متديناً زاملك ؟ كم قريب لك متدين ؟ ومع ذلك لا يوجد واحد منهم دعاك أو نصحك .
الأمر الخامس:الحوار اتصال من أكثر من طرف :
كثير من الوسائل الدعوية تعتمد على الخطاب من طرف واحد ومن جهة واحدة ، الآن وأنا أتخاطب معكم أتحدث وأنتم تسمعون، والأستاذ يتحدث مع الطلاب في الفصل من طرف واحد، الطالب يستقبل والأستاذ يتحدث ،وهكذا الخطيب والكتاب والشريط كلها وسائل اتصال من طرف واحد .
أما الحوار فيقيس التفاعل مع المستمع وردة فعله، ويتيح للمستمع أن يطرح اعتراضه ويبدي اقتناعه.
الأمر السادس :قلة العقبات :
حينما تنشر كتاباً أو شريطاً فأنت تحتاج إلى خطوات وأعباء تستغرق وقتاً وجهداً ، وقد تكون أكثر من العائد المتوقع من هذه الوسيلة ، أما الحوار فهو ميدان متاح في أي وقت وأي مجال .
الأمر السابع :الحوار لا يحتاج إلى متفرغ : إن هذا النوع في الدعوة لا يتطلب تفرغاً ، ولا مزيداً من الأوقات ، فأنت في المدرسة تتحدث مع زملائك في وقت الفسحة ووقت الراحة ، وأنت في العمل تتحدث معهم ، وأنت في مناسبة اجتماعية تتحدث مع الناس.
وكثير مما نطرحه في المجالس حديث فارغ وكلام غير مفيد ، هذه الفرص واللقاءات موجودة نستطيع أن نستثمرها في قضية دعوية ونفتح هذا الحوار، فلا تحتاج إلى تفريغ وقت، ولا نحتاج إلى جهد ، ولا تحتاج إلى تحضير موضوع ولا إلى إعداد فبدلاً من أن يكون حديثك حول هموم الدنيا وحول الهموم الخاصة يكون حول هذه الأمور والقضايا المفيدة .
الأمر الثامن : حتى تصبح الدعوة قضية حية:
إن هذا الأسلوب يحول قضية الدعوة إلى قضية حيّة ، قضية تعيش في النفوس وقضية لا يتكلف لها الإنسان ولا يحسب لها حساباً، وتصبح جزءاً من حياتنا.
أضرب لك مثالاً بقضية التشجيع والحديث عن الرياضة ؛ قلما تجد مجلساً للشباب أو الفتيات إلا وتجد أمور الرياضة تملأ الحديث فتجد نقاشاً طويلاً وجدلا،ً وكل إنسان يبدي ما لديه من قدرات في الإقناع برأي معين حول هذا أو ذاك ، هذه قضية تلقائية لا شعورية في أي مناسبة في أي وقت تسيطر عليهم ، حينما نعيش نحن هذه القضية – قضية الدعوة – وتصبح قضية تشغل بالنا وسيطر علينا في كل مناسبة وكل وقت وتتحول إلى قضية حيّة - فلا تكون مقصورة على وسائل خاصة وعلى برنامج واحد نؤديه .
إذا قابلت إنساناً في الطائرة تحدثت أنا وإياه وأثرت قضية من القضايا ، وإذا جلست في مناسبة زواج مع أحد الأقارب تحدثت أنا وإياه ، وفي الفصل ، وفي المدرسة ، وفي مقر العمل ، في أي مكان وأي مناسبة مع من تعرف ومن لا تعرف ، والناس تلقائياً في أي مناسبة أو لقاء يدور بينهم حوار وحديث، ويدخلون في موضوعات ويشّرق أحدهم ويغرب . فلم لا يكون للقضايا الدعوية الجارة نصيباً من هذه القضية ؟
إذا حين نحيي مبدأ الحوار ونستثمر الفرص المتاحة تصبح قضية الدعوة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بخلاف ما لو نشعر أنها قضية رسميّة- كما يقال- وكأنها قضية تحتاج إلى إعداد و خلافة… .
هذه بعض الأمور التي تؤيد أن تكون قضية الحوار والجدل مبدأً وأسلوباً من أساليب الدعوة التي يجب أن نعيشها ونمارسها .
من وسائل الإقناع:
قد يتساءل البعض كيف أقنع الناس ؟ وقد تواجهني عقبات كثيرة فكيف أتخطاها؟ هذا يحتاج إلى حديث آخر لكن يمكن أن نشير إلى بعض القضايا المهمة فيما يتسع له الوقت وهي قضايا نحتاج إليها في الحوار والجدل حتى يكون الحوار الذي نريده:
من وسائل الإقناع أولاً : يجب أن لا تُلجئ صاحبك للاعتراف بالخطأ ، فحينما تتحاور مع شخص فلا تضطره إلى ذلك لأن هذا صعب جدًّا على النفس، ولعلك تستعيد من الذاكرة مواقف الجدل فأحياناً يكون الجدل في قضية تافهة ويظهر الحق لكن يكاد المخطئ ويأبى أن يعترف فقدّر مشاعر الناس فلست في مجلس قضاء تريد أن تدين خصمك لكنك ببساطة تريد أن تثير القضية، وهذا سيتحقق بدون اعترافه بالخطأ .
الأمر الثاني : أعطه فرصة للتراجع فعندما يحضر شخص ويطرح رأياً فأتناقش معه، فمن الممكن أن أقول له أنا أعرف أن هناك نقصاً في معلوماتك، ولو كنت تعرف هذه المعلومات لوافقتني فهذا الأسلوب يجعل مَنْ أمامك يتراجع ، أو أقول له أنت انتبهت لجانب من الموضوع وهناك جانب آخر، فأعطه فرصة للتراجع ، فالمحاور الذكي هو الذي يعطي فرصة مقنعة ومعقولة للتراجع .
الأمر الثالث : الانطلاق من نقطة الاتفاق ، فعند جدالك مع أي شخص يجب أن تنطلق معه من نقطة تتفقون عليها
من يطعن في واقع المتدينين ويضرب على ذلك أمثلة من واقعهم يمكنك أن توافق على المقدمة لكن تتحفظ على النتيجة، فتقول ربما أن فئة منهم تقوم بما تقول لكن ليس بالضرورة أن هذا حال جميعهم؛ فلا تصر على نقاط الخلاف فتخسر كل القضية .
مثال آخر : كثير من الشباب غير المتدينين حينما تناقشه يقول : أنا جربت المتدينين وهم غير جادين وغير صادقين ولا أريد أن أكون مثلهم ،فلو أصررت على بطلان كلامه قد تخسر الحوار أويبقى الحوار معه حول هذه النقطة التي أثارها، بينما الهدف الذي أريده أنا هدف آخر فأقول : افترض أن كلامك صحيح، لكن هل الواقع الذي أنت عليه صحيح أم لا ؟ هل يرضي الله أم لا ؟ وإذا قصر المتدينون ووقعوا في أخطاء فهل هذا عذر لك في أن تقع في أخطاء من نوع آخر ؟
الأمر الرابع: حسن اختيار الألفاظ عندما أقول لإنسان : أنت جاهل في هذا الموضوع ، فهذه كلمة مرفوضة ، لكن من الممكن أن تصاغ بأسلوب أليق مثل أن تقول له : إن معلوماتك ناقصة حول هذا الموضوع . أوتقول له : هناك أشياء استجدت ، : أنا أعرف أشياءً باعتبار واقع عملي قد تخفى عليك، بدلاً من أن تقول له : أنت تتكلم بواقع تجهله.
الأمر الخامس : أعطه فرصةً للتفكير ، أعطه تساؤلات ودعه يفكر فيها ولينتهي الحوار هنا ، لكنه سيبقى يفكر فيها لأن جو الحوار والجدل جو مشحون وصعب ، فصعب أن يقتنع بخطئه وأن يستسلم ، لكن إذا بقي يفكر لوحده وبَعُدَ عن جو الحوار فيمكن أن يقوده ذلك إلى خطوة ونتيجة عملية .
الأمر السادس : الهدوء في الحوار وعدم التعالي ، لا تجعل نفسك معلماً للناس وتصور لهم أنك تعلم ما لا يعلمون ، ولو أنك تواضعت لأكبروك في أعينهم ، ولو تعودت على ذلك لكنت صاحب حجة تغنيك عن رفع صوتك وتعاليك .
الأمر السابع : تجنب الأحكام الجاهزة ، ربما تحكم على شخص بقولك : أنت فيك كذا وكذا ، ويجب عليك كذا وكذا ، وإن أصدرت أحكاماً فيجب أن تكون موضوعية وغير قاسية فالناس لم يُنصبوك قاضياً .
الأمر الثامن : يمكن أن تستبدل الأمر باقتراح : شخص يذكر أنه قدم محاولة شعرية ، وأعطاها لك باعتبارها أول محاولة ، وشعرت بعدم قدرته على الشعر فلا تجرحه بل قل : كلماتك فيها من المعاني والمشاعر والأسلوب الجيد لكن لو اتجهت للكتابة النثرية لتوقعت أنك ستنجح أكثر .
الأمر التاسع : حسن الاستماع والإنصات للآخرين فحن نجادل لايسوغ أن نفترض فيمن يجادلنا أن يستمع ، وأن يتلقى ، وإذا رفض نتهمه بأنه يرد الحق وأنه مستكبر وصاحب هوى ولا يجدى معه الحوار …إلخ
لقد قال يوسف : ) أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار … ( ؟! وقال عز وجل: ) هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( . الإنسان الواثق من نفسه ومما عنده وهو على حق يتواضع ويجادل، 0ويتنزل مع الناس، ويستمع إليهم ويؤيد أقوالهم، ويطلب منهم المزيد كي يشعر محاورك أنك تحترم ما عنده .
إذا كنت تريد إقناع الناس ففكر كثيراً في أسلوب الحوار والجدل ، أما إذا كنت تشعر أن الحوار والجدل هو أسلوب للتعالي وإثبات الذات فإنك قد دخلت في دائرة المجادلة بأسلوب غير الأسلوب الشرعي اللائق ، ودخلت دائرة المراء والجدل المذموم الباطل ، وهذا أسلوب لا يصلح لمثلك .
هذه قضايا أردت أن أختم بها الحديث لأني أشعر أنها قضايا مهمة ، وإذا اقتنعنا بضرورة الجدل والحوار فيجب علينا أن نتعلم فن الأسلوب والحوار[/b]
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه … وبعد :
فعنوان حديثنا " دعوة للحوار " وبين يدي هذه الموضوع لابد أن نذكر أنفسنا بحديثٍ نسمعه في منتدياتنا ، و نقرؤه فيما يكتب ويسطّر ، و نسمعه في المنابر العامة ، وأصبح هذا الحديث يأخذ انتشاراً بين طبقات أوسع في المجتمع من ذي قبل ، ذلكم هو الحديث عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، لقد أصبحت الدعوة إلى الله عز وجل تساؤلاً يطرحه الكثير من الشباب ، لكنه يطرحه ضمن دائرةٍ محدودة من مجتمعات المسلمين ، فهو يعيش في إطار محدود ولا يتعامل إلا مع شريحة وقطاع معيَّنيْن ، فالطالب لم يعش إلا في جو الطلاب وجو الشباب ، في ظل نموذج محدود ومحصور بزمان معين .و لا يدري عما يدورخارج هذة الدائرة فيها.
إنه لا يليق أن نظل ندور في هذه الحلقة ، بل نتجاوز إلى مرحلة أخرى وهي: أن نتساءل عن الأساليب الجديدة ، والوسائل والمعوقات، وننتقل نقلة أخرى لأننا إذا بقينا نحدث الناس ونخاطب الناس داخل هذه الدائرة المحدودة ، فلا نتحدث إلا عن أهمية الدعوة والحاجة إليها وفضلها عند الله عز وجل- مع أهمية هذا الحديث- إذا كنا ندور فقط في ظل هذه الدائرة فسنبقى ولن نتطور ولن نتقدم .إننا نحتاج كثيراً للحديث عن فضل الدعوة وأهميتها، ويجب أن تكون مستقرة وبديهية .
في هذا الحديث إنما أخاطب فئة خاصة من الناس، هم أولئك الذين يشعرون أنَّ عليهم مسؤولية في الدعوة وأن عليهم واجباً ، أمّا أولئك الذين لا يزالون إلى الآن يتساءلون هل لهم دور في الدعوة أم لا ؟
فأولئك من وجهة نظري يجب أن نتجاوزهم، وأنَّ الوقت لا يتسع لأن نضيعه في الخطاب مع غير الجادين ، إن الواقع يفرض نفسه فأي مسلم عنده غَيرة وعنده حميِّة لدين الله عز وجل وغضب إذا انتهكت محارم الله يرى أينما ما ذهب يمنة ويسرة في واقع المسلمين ما يحرق فؤاده وما يدمي قلبه ، والذي لم يتألم قلبه لواقع المسلمين اليوم ولم يتحرك قلبه فليبكِ على قلبه، وليراجع منزلة الدين في نفسه أصلاً، وأين منزلة الدين لديه إذا كان ما يراه من واقع المسلمين اليوم من فساد وتخلف ومن مشكلات - يتصدع رأسك و أنت تحاول أن تحصي رؤوسهاوعناوينها فقط فكيف بالتفاصيل - الذي لا تحرك هذه الأوضاع قلبه يجب أن يعيد منزلة الدين في قلبه، وفي وجود الغيرة عنده على حرمات الله عز وجل ، ولهذا قال النبي r : " ما من نبي أرسله الله إلاَّ وكان له أصحاب يهتدون بسنته ويهتدون بأمره، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . إن الذي لم يجاهد في سبيل الله في إنكار المنكرات، وتغيير هذا الواقع بالأسلوب الشرعي المناسب وافتقد حتى القضية القلبية فهو يحتاج أن يعيد النظر في إيمانه " . ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ، ماذا ؟ لأن الإيمان لابد أن يُوجِد عند الإنسان الغيرة والحمية للدين.
إن ما سبق كله يدعونا إلى أن نتساءل دائماً ونبحث عن أساليب للدعوة إلى الله عز وجل، وقد لا تكون بالضرورة أساليب جديدة نبتكرها، لكن قد نكون غافلين عنها، ومن ذلك:
ما نلقي الحديث حوله وهو قضية الحوار .
هذا الحديث ليس حديثاً عن أدب الحوار، ولا كيف نتحاور مع الناس، إنما هو حديث عن حاجتنا لاستخدام الحوار في دعوتنا إلى الله عز وجل والجدل و إقناع الناس، ونشعر جميعاً حينما نتأمل في واقعنا أنَّ هذه اللغة لغة مفقودة كثيراً في دعوتنا، وأنّا ربما لا نصنف هذا اللون وهذا الأسلوب ضمن أساليب الدعوة إلى الله عز وجل .
لماذا نحن بحاجة إلى الحوار والجدال ؟
الأمر الأول: الأمر به في القرآن :
نحن بحاجة إليه لأنه أسلوب دعا إليه القرآن فالله تبارك وتعالى يقول :
(( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فيأمر تبارك وتعالى نبيه والسائرين على نهجه أن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يجادلوا الناس بالتي هي أحسن حتى لا يكون الجدال مراءً ، أو جدلاً عقيماً، فهو أمرٌ يُخاطَب به النبي r ولا شك أنَّ المسلمين والدعاة لله عز وجل والعاملين لدين الله تبارك وتعالى يتأسون به عليه الصلاة والسلام .
ويقول تبارك وتعالى : ) ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا منهم ( . هذه الآية ينهى الله – تبارك وتعالى – فيها أن يجادل أهل الكتاب جدلاً مذموماً وذلك لأن أهل الكتاب بطبيعتهم أهل جدل وأهل شقاق وأهل مراء ونعرف هذا في كتاب الله تبارك وتعالى ،فقد قصَّ الله عز وجل علينا قصص بني إسرائيل وقص علينا أخبارهم وأنباءهم ، اقرؤوا سورة البقرة في أولها وكيف كان أولئك يتخاطبون مع نبي من أنبياء الله تبارك وتعالى ، كيف كانوا يتخاطبون مع موسى حين قال :
) إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ، قالوا أتتخذنا هزوا - أهذه لغة يخاطب فيها نبي من أنبياء الله ؟! – قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ، قالوا ادع لنا ربك ( لاحظ الخطاب ) ادع لنا ربك ( كأن الله في منطق هؤلاء رب لموسى وحده …
) ادع لنا ربك يبين لنا ما هي (…
) ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها (…
) ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا (…
وحين قال لهم موسى : ) ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ( ، بدأ الحوار معهم بمقدمة وكأنه كان يتوقع منهم هذا اللجَجْ والخصومة فذكرهم بنعمة الله عليهم ) اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ( ... ) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين و إنَّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ( ثم قالوا بعد ذلك : ) قالوا يا موسى : إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون – حتى وصل موسى إلى اليأس – قال ربَّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (. وحين كتب الله عليهم التيه أربعين سنة تاهوا في الصحراء حتى ذهب هذا الجيل جيل الهزيمة جيل الجدل والخصومة، وجاء الجيل الجديد ثم أرسل الله إليهم يوشع بن نون وبدأهم من البداية وخطبهم وقال : (( لا يتبعني أحدٌ بنى داراً ، ولم يرفع سقوفها ، ولا يتبعني أحدٌ قد تزوج امرأةً ولمَّا يدخل بها – يعني أي إنسان متعلق بالدنيا فلا يتبعني - ثم قال للشمس : "أنت مأمورة وأنا مأمور" فحبس الله الشمس حتى فتح الله عز وجل له الأرض المقدسة )) هكذا كان بنو إسرائيل يتعاملون مع الأنبياء ولهذا في هذه الآية يأمرنا سبحانه وتعالى أن نجادل بني إسرائيل . لكن بالتي هي أحسن .
الأمر الثاني :الحوار من منهج الأنبياء :
حينما نقرأ القرآن نجد أنه كثيراً ما يورد لنا قصص الأنبياء والتي ما وجدت عبثاً وما ملئ بها القرآن حشواً ، بل خاطبنا الله عز وجل بها لنعتبر ونتعظ ونأخذ من سير الأنبياء عليهم السلام منهجاً، فهم يمثلون قمة النجاح في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وقمة النجاح في استخدام الأسلوب المناسب مع أقوامهم ، حينما تقرأ قصص القرآن نرى أنها لا تكاد تفتقد الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم ، أي قصة من قصص الأنبياء، فكانوا يخاطبون أقوامهم ، ويجادلونهم أفراداً وجماعات ، ومن ذلك على سبيل المثال :
نوح وقومه ؛ هاهم قوم نوح يعلنون الشكوى أمام نوح أنهم لم يعودوا يصبروا على جداله ) قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( فقد شعروا أنهم قد أُلجموا بالجدل والخصومة فهربوا إلى بابٍ آخر- وهذا شأن المكابرين المعاندين - فانصرفوا واستعجلوا العذاب
) فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ( فيجيبهم نبي الله بالمنطق الذي كان يليق بأنبياء الله بأن قضية العذاب قضية لا تهمه وأنها أمر بيد الله عز وجل ) قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ( فهذه ليست قضيتي ، ولست مسؤولا عن عذابكم إنما هذا أمرٌ بيد الله إذا شاء الله أن يعذبهم فسيعذبهم ، أمّا الحوار والجدل معهم فهي قضية ليست مقصودة لذاتها إنما كان ذلك لأجل النصيحة لهم ) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ، إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون ( .
يوسف في السجن :نموذج آخر يحدثنا عنه القرآن ، ذلكم هو الحوار والجدل الذي دار بين يوسف و أصحابه في السجن حينما جاءوا إليه يستفتونه في رؤياهم؛ فبدأ معهم الحوار بقضية التوحيد وقضية الألوهية وكأنه شعر أن هذه القضية أهم من قضية الرؤيا وتعبير الرؤيا . فحين جاءوا إليه يستفتونه ) نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين . قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي ( .أولاً : وعدهم أنه سيجيب على هذا السؤال ، ثم نسب العلم إلى الله ) إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ( ؟ انظر لأسلوب الحوار الذي كان يطرحه معهم فيطرح هذا التساؤل تنزلاً معهم ) أأرباب متفرقون خير ؟ أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماءاً سميتموها أنتم وآبائكم ( الآلهة من الذي سماها ؟ أنتم الذين سميتم هذه الآلهة فكيف تعبدونها، ثم بعد ذلك عبّر لهم الرؤيا .
إبراهيم ووالده : ويحكي لنا القرآن أيضاً حواراً آخر بين إبراهيم وبين أبيه .
) واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً . يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًّا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًّا . قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنَّك واهجرني مليّا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًّا .( .
واستعراض سائر النماذج - نماذج الحوار والجدل بين الأنبياء وأقوامهم - استعراض يطول فحين نريد أن نستعرض كل المواقف التي جادل الأنبياء فيها أقوامهم، فهذا يعني أن نذكر كل قصص الأنبياء التي ذكر الله في القرآن، لأن كل حياة الأنبياء كانت جدلاً وحواراً بينهم وبين أقوامهم .
إذن فهؤلاء هم الأنبياء -وهم قدوة الدعاة إلى الله - هاهم لا يفتقدون هذا المنهج، وهم كما قال نوح :
) قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهارا . فلم يزدهم دعائي إلا فرارا . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم ... ( . ثم قال : ) ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ( فاستعمل معهم كل الأساليب : دعاهم أفرادا ، دعاهم جماعات ، دعاهم في الليل , دعاهم في النهار ، ولك أن تتصور هذه الأساليب والوسائل التي استخدمها نوح مع قومه وقد بقي معهم ألف سنة إلا خمسين عاماً حتى تضجروا منه فقالوا ) قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (
أما خاتم الأنبياء r - ولاتخفاكم سيرته- كم هي مواقف الحوار والجدل التي كان النبي r فيها يجادل الناس، وكم هم الذين أسلموا من خلال لقاء وحوار بينهم وبينه .
هاهو عمرو بن عنبسة جاء إلى النبي r فقال : من أنت . قال : أرسلني الله فجلس النبي r وإياه حتى أسلم رضي الله عنه .
ولئن جاء عمر رضي الله عنه جاء بصورة الرجل المقبل ليسأل ، فقد جاء ضماد بصورة أخرى جاء إلى مكة وكان كاهناً يرقى الناس أيام الجاهلية وسمع قريشاً يتهمون النبي بالجنون والسحر، فجاء إلى النبي وقال له أريد أن أرقيك - وهو جاد- ، قال إذا كنت تشكو من سحر أو من جن وفيك داء أرقيك فإن الناس يُشفون على يدي، فخاطبه النبي r وسمع حديثاً آخر وخطاباً آخر ثم انصرف وقد أسلم .
هل تظن أن أولئك الذين أسلموا كلهم سمعوا دعوة النبي r من خلال خطاب عام كان يخاطب به الملأ ، نعم قد كان النبي r يخاطب الناس في المجامع العامة؛ فقد صعد إلى الصفا ودعا الناس ثم قال : " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" وكان يخاطب الناس في المواسم، كان كثيراً ما يجادل بالتي هي أحسن ويجادل استجابةً لأمر الله .
وأصحاب النبي r الذين ساروا على نهجه كانوا يفتحون الجدل والحوار، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما حصل بعد صلح الحديبية، فقد ذكر أهل السير أن الذين دخلوا في الإسلام ما بين صلح الحديبية وفتح مكة،أكثر من الذين دخلوا في الإسلام منذ بعث النبي والسر؛ ذلك أنه لما تمت الهدنة بين النبي وقريش كان هناك مجالٌ للقاء والحوار؛ فأسهم ذلك في نشر هذه الدعوة وخطاب فئات ربما كانت لم تسمع بها .
الأمر الثالث : أنه ميدان يسع الجميع:
كثيراً ما نسمع الشكوى والتساؤل؛ فكثير من الناس يتساءل ويقول إني أريد أن أشارك في الدعوة ، وأريد أن أساهم ، لكنني لا أملك القدرة ولا الإمكانات ، والكثير من الناس يطرح هذا السؤال جادًّا وهو يشعر أن الدعوة إلى الله تتطلب قدرات لا يملكها .
فتتطلب أولاً : رصيداً من العلم الشرعي - قد لا يملكه – باعتبار تخصصه أو باعتبار ضعف حصيلته ، أوقلة اهتمامه ، أو دخوله في الاستقامة حديثاً ،أو لأي اعتبار آخر.
وقد يشعر أن الدعوة تحتاج منه إلى أن يكون كاتباً أو خطيباً أو رجلاً مؤثراً … إلخ ، فهو قد يشعر أن هذه الدعوة تتطلب قدرات وإمكانات لا يطيقها هو ولا يملكها ، وحينئذٍ يتساءل بجد : ما الدور الذي أقوم به ؟
إن كل إنسان في المجتمع وأيًّا كانت قدراته ، أيًّا كانت مكانته يستطيع أن يفتح حواراً مع الناس الذين حوله ومع أقرانه ؛ فالطالب مثلاً يستطيع أن يناقش أحد زملائه ، ويحادثه حديثاً وديًّا ، ليس بالضرورة أن تكون نصيحة موجهة ، أو خطاباً رسميًّا كما يقال له يا أخي أنا أود أن أسألك سؤالاً : هل أنت راضٍ بوضعك الآن ؟ هل تشعر أن الحال التي أنت عليها ترضي الله ورسوله ؟ هل لو أتاك الموت على هذه الحال أنت راضٍ ؟ ألا ترى أنك خلقت لحكمة وغاية ألا يستطيع أن يقول هذا الكلام ؟!! وهل يرى أحد أن هذا الكلام يحتاج إلى علم جم وغزير ؟، أبداً هذا الكلام يستطيع أن يقوله كل مسلم.
حينما تجد زميلاً لك قد بدأ يصاحب الأشرار وتأخذ بيده وتقول يا أخي أنت تعرف أن الأشرار قد يؤثرون عليك وقد يوقعونك في الفساد وقد تبدأ أنت معهم من نقطة صغيرة وتنتهي إلى نهاية مزعجة وأنت تعرف أن النبي r حذرنا من صحبة الأشرار وهو r ناصحٌ لنا وقد ضرب لنا مثلاً بالجليس الصالح والجليس السوء .
أنا لا أتصور أبداً أن أحداً منكم لم يمر عليه هذا الموقف ، لا أحد منكم لم ير زميلاً له قد بدأ يصاحب الأشرار ، لكن من منا حينما رأى زميله يصاحب الأشرار وقد بدأ معهم هذه الخطوات طرح معه هذا الحوار وهذا الحديث ، صحيح أنه كلما كان الإنسان أكثر قدرات كان أقدرعلى الإقناع ، لكن ضع في ذهنك أن الشخص المقابل لك هو في مستواك ومثلك ، فحين تكون أنت طالباً في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعة أو موظفاً ، فالذي تتعامل معه هو مثلك تماماً مثل ثقافتك ، مثل قدراتك ، بل أنت قطعاً ستكون أكثر قدرات منه باعتبار أنك إنسان متدين على الأقل أنت تقرأ ، وأنت تسمع ، نحن نريدك أن تعيش مع من هو مثلك، وهكذا نشعر أنه لا توجد فئة من فئات المجتمع إلا تستطيع أن تخاطب من في مستواها.
إن أي إنسان في المجتمع يستطيع أن يجيد مثل هذه اللغة مع من حوله من الناس ، إذن فاستخدام هذا الأسلوب وهذه اللغة سيقضي على هذا التساؤل ، وسنشعر حينما نفكر هذا التفكير أن الميدان قد أصبح مفتوحاً للجميع ، وأصبحت قضية الدعوة تستوعب كل الناس، وتستوعب كل الطاقات في المجتمع ، نحن لا نجادل أبداً أن التصدر لدعوة للناس يجب أن تكون لطبقة تأهلت لذلك ، ونحن نشعر أنه لا يجوز بحال أن يدعو الإنسان الناس إلى شيءٍ لا يعلمه، ولا يجوز أن يتصدر المقل لما لا يحسنه هذه قضايا بديهية ولسنا بحاجةٍ أن نؤكد عليها ، لكن هناك قضايا لا يعذر بها أحد ، فالنبي r حينما خاطب الأمة قال : (( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده … )) فكل مسلم يرى المنكرات التى يعلم الجميع أنها منكر.
الأمر الرابع : سعة الانتشار :
أن هناك وسائل دعوية قد تمتلك رصيداً من الجاذبية ، وقد تملك عاملاً من عوامل الجذب والإثارة ، لكنها تخاطب فئة محدودة من الناس وشريحة قليلة مهما بلغت من الانتشار فالكتاب إذا طبع منه عشرة آلاف نسخة اعتبر واسع الانتشار ، والكتاب المثير لا يزال في عالمنا الإسلامي- الذي لا يعرف القراءة -لا تعد الأرقام فيه بالملايين بل بالآلاف ، وافترض أن هذا الكتاب طبع منه مليونا نسخة أو ثلاثه ملايين نسخة ، ماذا تصنع مع العالم الإسلامي الواسع ؟.
والشريط الذي يعد وسيلة واسعة الانتشار ، ما أعلى رقم يباع منه ؟ فئة محدودة من الأشرطة التي تنتشر انتشاراً واسعاً ، وستبقى محصورة في دائرة معينة مهما اتسعت الانتشار لكن حينما تتوسع قضية الدعوة ، و نفتح مجالاً للحوار و يصبح كل واحد يحمل قضية الدعوة ؛ فهذا يعني أننا سنخاطب المجتمع بأسره ، وسنخاطب كافة الطبقات ، ولا شك أن دين الله عز وجل يجب أن يبلَّغ للناس وأن يخبر به الناس كافةً .
دعنا نسأل: هل هناك شاب في مجتمعنا لم يتقابل مع شاب متدين أبداً ؟ اذهب إلى الشارع في أي مكان وأمسك بيد أي شاب واسأله عن ذلك ، فستراه قد قابل شاباً متديناً في المدرسة، وربما كان في فصله، أو جاره في المقعد، وقابل شاباً في الحي ، ربما كان قريباً له أو أخاً .
وانظر إلى أي فتاة في المجتمع ، ألم تقابل يوماً من الأيام فتاةً متدينة ؟ معلمة،أو زميلة، أو جارة، وهكذا سائر فئات المجتمع.
حينما تكون الدعوة قضية نحملها في كل مناسبة، وقضية حوار نفتحه في كل وقت في حالات فردية أو جماعية ، حينما نقابل أي شخص نفتح معه هذا الحوار ، فهذا يعني أنَّ هذه الرسالة أوستصل للناس كافة ، وستصل إلى طبقات واسعة من المجتمع .
كثير من الطلاب الذين قد حاورتهم شخصيًّا ، يقول لي : إني أول مرة أسمع هذا الكلام، وأول مرة أجد من يواجهني بهذا الخطاب ، وهذا منطق عجيب ، أنت تعيش في بيئةٍ مليئةٍ بالمتدينين كم أستاذا متديناً درسك ؟ كم طالباً متديناً زاملك ؟ كم قريب لك متدين ؟ ومع ذلك لا يوجد واحد منهم دعاك أو نصحك .
الأمر الخامس:الحوار اتصال من أكثر من طرف :
كثير من الوسائل الدعوية تعتمد على الخطاب من طرف واحد ومن جهة واحدة ، الآن وأنا أتخاطب معكم أتحدث وأنتم تسمعون، والأستاذ يتحدث مع الطلاب في الفصل من طرف واحد، الطالب يستقبل والأستاذ يتحدث ،وهكذا الخطيب والكتاب والشريط كلها وسائل اتصال من طرف واحد .
أما الحوار فيقيس التفاعل مع المستمع وردة فعله، ويتيح للمستمع أن يطرح اعتراضه ويبدي اقتناعه.
الأمر السادس :قلة العقبات :
حينما تنشر كتاباً أو شريطاً فأنت تحتاج إلى خطوات وأعباء تستغرق وقتاً وجهداً ، وقد تكون أكثر من العائد المتوقع من هذه الوسيلة ، أما الحوار فهو ميدان متاح في أي وقت وأي مجال .
الأمر السابع :الحوار لا يحتاج إلى متفرغ : إن هذا النوع في الدعوة لا يتطلب تفرغاً ، ولا مزيداً من الأوقات ، فأنت في المدرسة تتحدث مع زملائك في وقت الفسحة ووقت الراحة ، وأنت في العمل تتحدث معهم ، وأنت في مناسبة اجتماعية تتحدث مع الناس.
وكثير مما نطرحه في المجالس حديث فارغ وكلام غير مفيد ، هذه الفرص واللقاءات موجودة نستطيع أن نستثمرها في قضية دعوية ونفتح هذا الحوار، فلا تحتاج إلى تفريغ وقت، ولا نحتاج إلى جهد ، ولا تحتاج إلى تحضير موضوع ولا إلى إعداد فبدلاً من أن يكون حديثك حول هموم الدنيا وحول الهموم الخاصة يكون حول هذه الأمور والقضايا المفيدة .
الأمر الثامن : حتى تصبح الدعوة قضية حية:
إن هذا الأسلوب يحول قضية الدعوة إلى قضية حيّة ، قضية تعيش في النفوس وقضية لا يتكلف لها الإنسان ولا يحسب لها حساباً، وتصبح جزءاً من حياتنا.
أضرب لك مثالاً بقضية التشجيع والحديث عن الرياضة ؛ قلما تجد مجلساً للشباب أو الفتيات إلا وتجد أمور الرياضة تملأ الحديث فتجد نقاشاً طويلاً وجدلا،ً وكل إنسان يبدي ما لديه من قدرات في الإقناع برأي معين حول هذا أو ذاك ، هذه قضية تلقائية لا شعورية في أي مناسبة في أي وقت تسيطر عليهم ، حينما نعيش نحن هذه القضية – قضية الدعوة – وتصبح قضية تشغل بالنا وسيطر علينا في كل مناسبة وكل وقت وتتحول إلى قضية حيّة - فلا تكون مقصورة على وسائل خاصة وعلى برنامج واحد نؤديه .
إذا قابلت إنساناً في الطائرة تحدثت أنا وإياه وأثرت قضية من القضايا ، وإذا جلست في مناسبة زواج مع أحد الأقارب تحدثت أنا وإياه ، وفي الفصل ، وفي المدرسة ، وفي مقر العمل ، في أي مكان وأي مناسبة مع من تعرف ومن لا تعرف ، والناس تلقائياً في أي مناسبة أو لقاء يدور بينهم حوار وحديث، ويدخلون في موضوعات ويشّرق أحدهم ويغرب . فلم لا يكون للقضايا الدعوية الجارة نصيباً من هذه القضية ؟
إذا حين نحيي مبدأ الحوار ونستثمر الفرص المتاحة تصبح قضية الدعوة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، بخلاف ما لو نشعر أنها قضية رسميّة- كما يقال- وكأنها قضية تحتاج إلى إعداد و خلافة… .
هذه بعض الأمور التي تؤيد أن تكون قضية الحوار والجدل مبدأً وأسلوباً من أساليب الدعوة التي يجب أن نعيشها ونمارسها .
من وسائل الإقناع:
قد يتساءل البعض كيف أقنع الناس ؟ وقد تواجهني عقبات كثيرة فكيف أتخطاها؟ هذا يحتاج إلى حديث آخر لكن يمكن أن نشير إلى بعض القضايا المهمة فيما يتسع له الوقت وهي قضايا نحتاج إليها في الحوار والجدل حتى يكون الحوار الذي نريده:
من وسائل الإقناع أولاً : يجب أن لا تُلجئ صاحبك للاعتراف بالخطأ ، فحينما تتحاور مع شخص فلا تضطره إلى ذلك لأن هذا صعب جدًّا على النفس، ولعلك تستعيد من الذاكرة مواقف الجدل فأحياناً يكون الجدل في قضية تافهة ويظهر الحق لكن يكاد المخطئ ويأبى أن يعترف فقدّر مشاعر الناس فلست في مجلس قضاء تريد أن تدين خصمك لكنك ببساطة تريد أن تثير القضية، وهذا سيتحقق بدون اعترافه بالخطأ .
الأمر الثاني : أعطه فرصة للتراجع فعندما يحضر شخص ويطرح رأياً فأتناقش معه، فمن الممكن أن أقول له أنا أعرف أن هناك نقصاً في معلوماتك، ولو كنت تعرف هذه المعلومات لوافقتني فهذا الأسلوب يجعل مَنْ أمامك يتراجع ، أو أقول له أنت انتبهت لجانب من الموضوع وهناك جانب آخر، فأعطه فرصة للتراجع ، فالمحاور الذكي هو الذي يعطي فرصة مقنعة ومعقولة للتراجع .
الأمر الثالث : الانطلاق من نقطة الاتفاق ، فعند جدالك مع أي شخص يجب أن تنطلق معه من نقطة تتفقون عليها
من يطعن في واقع المتدينين ويضرب على ذلك أمثلة من واقعهم يمكنك أن توافق على المقدمة لكن تتحفظ على النتيجة، فتقول ربما أن فئة منهم تقوم بما تقول لكن ليس بالضرورة أن هذا حال جميعهم؛ فلا تصر على نقاط الخلاف فتخسر كل القضية .
مثال آخر : كثير من الشباب غير المتدينين حينما تناقشه يقول : أنا جربت المتدينين وهم غير جادين وغير صادقين ولا أريد أن أكون مثلهم ،فلو أصررت على بطلان كلامه قد تخسر الحوار أويبقى الحوار معه حول هذه النقطة التي أثارها، بينما الهدف الذي أريده أنا هدف آخر فأقول : افترض أن كلامك صحيح، لكن هل الواقع الذي أنت عليه صحيح أم لا ؟ هل يرضي الله أم لا ؟ وإذا قصر المتدينون ووقعوا في أخطاء فهل هذا عذر لك في أن تقع في أخطاء من نوع آخر ؟
الأمر الرابع: حسن اختيار الألفاظ عندما أقول لإنسان : أنت جاهل في هذا الموضوع ، فهذه كلمة مرفوضة ، لكن من الممكن أن تصاغ بأسلوب أليق مثل أن تقول له : إن معلوماتك ناقصة حول هذا الموضوع . أوتقول له : هناك أشياء استجدت ، : أنا أعرف أشياءً باعتبار واقع عملي قد تخفى عليك، بدلاً من أن تقول له : أنت تتكلم بواقع تجهله.
الأمر الخامس : أعطه فرصةً للتفكير ، أعطه تساؤلات ودعه يفكر فيها ولينتهي الحوار هنا ، لكنه سيبقى يفكر فيها لأن جو الحوار والجدل جو مشحون وصعب ، فصعب أن يقتنع بخطئه وأن يستسلم ، لكن إذا بقي يفكر لوحده وبَعُدَ عن جو الحوار فيمكن أن يقوده ذلك إلى خطوة ونتيجة عملية .
الأمر السادس : الهدوء في الحوار وعدم التعالي ، لا تجعل نفسك معلماً للناس وتصور لهم أنك تعلم ما لا يعلمون ، ولو أنك تواضعت لأكبروك في أعينهم ، ولو تعودت على ذلك لكنت صاحب حجة تغنيك عن رفع صوتك وتعاليك .
الأمر السابع : تجنب الأحكام الجاهزة ، ربما تحكم على شخص بقولك : أنت فيك كذا وكذا ، ويجب عليك كذا وكذا ، وإن أصدرت أحكاماً فيجب أن تكون موضوعية وغير قاسية فالناس لم يُنصبوك قاضياً .
الأمر الثامن : يمكن أن تستبدل الأمر باقتراح : شخص يذكر أنه قدم محاولة شعرية ، وأعطاها لك باعتبارها أول محاولة ، وشعرت بعدم قدرته على الشعر فلا تجرحه بل قل : كلماتك فيها من المعاني والمشاعر والأسلوب الجيد لكن لو اتجهت للكتابة النثرية لتوقعت أنك ستنجح أكثر .
الأمر التاسع : حسن الاستماع والإنصات للآخرين فحن نجادل لايسوغ أن نفترض فيمن يجادلنا أن يستمع ، وأن يتلقى ، وإذا رفض نتهمه بأنه يرد الحق وأنه مستكبر وصاحب هوى ولا يجدى معه الحوار …إلخ
لقد قال يوسف : ) أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار … ( ؟! وقال عز وجل: ) هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ( . الإنسان الواثق من نفسه ومما عنده وهو على حق يتواضع ويجادل، 0ويتنزل مع الناس، ويستمع إليهم ويؤيد أقوالهم، ويطلب منهم المزيد كي يشعر محاورك أنك تحترم ما عنده .
إذا كنت تريد إقناع الناس ففكر كثيراً في أسلوب الحوار والجدل ، أما إذا كنت تشعر أن الحوار والجدل هو أسلوب للتعالي وإثبات الذات فإنك قد دخلت في دائرة المجادلة بأسلوب غير الأسلوب الشرعي اللائق ، ودخلت دائرة المراء والجدل المذموم الباطل ، وهذا أسلوب لا يصلح لمثلك .
هذه قضايا أردت أن أختم بها الحديث لأني أشعر أنها قضايا مهمة ، وإذا اقتنعنا بضرورة الجدل والحوار فيجب علينا أن نتعلم فن الأسلوب والحوار[/b]